مرکز الهدف للدراسات

Hadaf Center For Studies

26 January 2019

الجهاد والمشروعية السياسية

في الحديث عن المشروعية السياسية لا نتوخى المقاربة القانونية المألوفة التي تحاول مد الوشائج بين الجذر الدستوري والتعبيرات القانونية، ولا نسعى إلى صياغة رؤية فقهية محددة ترتسم في نهايتها مشروعية مجردة، وقد خاض في السابق، الكثير من المذاهب الفقهية في المسألة ووصل ببعضها القول بحصرية ((السلطان بالسيف))

وإنما يتجه منحى الكلام، هنا، وجهة تاريخية بحتة، بمعنى محاولة الإفادة من معطى التجربة البشرية عامة والاسلامية خاصة ، في مجال السلطة، للخروج بتصور علمي دقيق، وعندما نقول علمي لا نقصد التعسف في إطلاق الأحكام وإنما للدلالة على المنهج الذي تم استخدامه للخلوص إلى هذه النتيجة. 

في التجربة السياسية الإسلامية، تكاد مراحلها ومفردات ممارساتها، في الإطار السلطاني، تصدح بالحقيقة ؛ فالأمويون بدءاً بمعاوية وانتهاءاً بما يعرف بمروان الحمار لم تثبت أو تتراخى سلطة أحد منهم إلا على إيقاع حوافر الخيول وأصوات قعقعة السلاح، والمفارقة أن أولئك كانوا يدركون بحدسهم وأحياناً بحسهم تلك الحقيقة، فيقحمون انفسهم في معارك أو يستفيدون من إسهاماتهم في مجال تعزيز واقع سياسي أو خلق آخر جديد. والطريف في الأمر أن القوة الجارفة للمشروعية السياسية التي تبنيها التجربة القتالية مع الأعداء، قادرة على محو تاريخ كامل لشخص واستبداله بآخر لا يلابسه عيب أو تشويه شائبة . كل ذلك بفضل المصهر الذي يخرج شخصية القائد متحررة من كل دنس، حتى وإن كان ذلك الدنس هو اغتصاب السلطة.

فالجهاد، الذي يشعر الناس بنبض الحياة، لديه كيمياء عالية التركيز تمكنه من شد العصب الوطني والديني، فيضحى الكل في لحظة ما، كتلة مشاعر وأحاسيس يستحيل تشكلها في ظروف مغايرة ، فتتراجع التناقضات الثانوية والتباينات التفصيلية المختلفة، لتتقدم المعركة ومنطقها وحساباتها والآثار التي ستترتب عليها، فتفيض النفس بالعطاء ويرخص كل شيء تجاهها ويذهب الحرص الذي كان يحجب العطاء، وتتقدم ، بدلاً منه، كل اشكال البذل، وبإزاء هذا الانقلاب الوجداني تتوارى المطامع والمطامح السياسية خلف مناخات التعبئة العامة، ويتحول القائد الى رمز للقوة والوحدة والحياة والوجود، فيتحصن موقعه بما يستحيل اختراقه شعبياً أو سياسياً خاصة إذا توجت المعركة بإنجازات عسكرية مهمة، فعندها يرتفع القائد إلى الموقع الذي لا تناله سهام المشككين ولا احلام المتربصين، ويصبح بنظر الناس المتعين لإدارة الحكم والسلطة.

والشرعية السياسية التي يكتسبها القائد هي اقوى وأدوم من مدة حكمه، فلديها من الاحتياط والزخم ما يفيض عن سنوات حياته، فتنشر هالتها وسطوتها إلى الابن وأحياناً الحفيد وقد يأتي من الأبناء من يجدد الروح في تلك المشروعية، فيطول الحكم وقد يحصل العكس، فيتراخى عصب الأمة عن تأييد الأبناء.

ما نسوقه، هنا، عن العلاقة المتينة بين الجهاد والمشروعية السياسية،  ليس انفعالاً بواقع معين نعيشه، فالتاريخ الإسلامي مليء حتى التخمة بالشواهد، وقد سبق وأوردنا التجربة الاموية، ولا تخرج التجربة العباسية عن عصريها الأولين عن الاتجاه العام، وعندما تراخى العباسيون إزاء أعدائهم الخارجيين، وخسر الأحفاد بقية المشروعية المتوارثة، جاء من ملأ الفراغ من خارج الأسرة، كالبويهيين ومن ثم السلاجقة. فالتوريث السياسي من المظالم التي دفعت البشرية عامة والأمة الإسلامية خاصة أثماناً باهظة جراءها. فالتوريث سيء بالمطلق بمعنى انه غير قابل للمساومة أو الجدل في عيوبه، ويكفي انه حمل لنا عبر التاريخ الإسلامي، عدداً من الخلفاء والسلاطين الذين عرفوا بقصورهم الذهني وعدداً آخر من المتحللين أخلاقياً والمستقيلين بالكامل من المسؤولية، ونكاد نجزم أن الصالحين من الحكام الواصلين إلى سدة الخلافة أو السلطنة بالتوريث السياسي كانوا استثناء من القاعدة. فالقول بالمشروعية السياسية للجهاد كمبدأ بنت ركائزه التجارب التاريخية، لا يستلزم الكلام عن ديكتاتورية المنتصر فليس ثمة علقة بين قيادة مرحلة ومصادرة تاريخ امة. فالناس في النهاية، هم الصانعون الحقيقيون للحدث التاريخي، واذا توافقوا على قائد في مرحلة استثنائية من حياتهم، لا يعني التنازل عن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم. والمشروعية لا تقف عند حدود السياسة، بل تتخطاها إلى العقيدة والفكر والثقافة، فقوة المقابسة، التي تنشأ على حرارة الجهاد، تكاد تكون قاهرة إلى حدود عدم القدرة على منع إشعاعاتها. والمعطيات التاريخية تقطع بأن كل الديانات والمذاهب قد انتشرت عبر القتال، ومن خلال السيف، هكذا انتشرت المسيحية في أوروبا وامريكا والأمر عينه يمكن سوقه بالنسبة إلى المسلمين ومذاهبهم ، وهذه الحقيقة من المفارقات البارزة التي قلما يلتفت إليها المشتغلون باللاهوت وعلم الكلام، الذين يتوهمون وجود أثر لقوة الحجة والبرهان وأنهما اللذان حسما الأكثريات والأقليات الدينية والمذهبية، وهو ما يفتح كوة في جدار العصبيات التي تشتد وتتراخى على وقع الصراع السياسي والحسابات السلطوية، ليس الا. وما التستر بالكلام واللاهوت ومقولات الدفاع عن الدين والمذاهب إلا مسوغات موهومة تخفي جوهر الصراع وحقيقته ما هو سياسي بامتياز.

فالجهاد بحرارة الدم المسفوك فيه وعمق المشاعر التي تسكن أهله، وحالات الانفعال والعاطفة المتفجرة، من حديد المدافع والسيوف، يبقى أحد خيارات التغيير الأساسية، وقد يكون في مرحلة ما هو الخيار المتعين، فلا ينبغي إسقاطه كاحتمال في حياة الأمة، مع العلم أن الجهاد فرض على الناس وهو كره لهم.

د. حسن جابر

تعليقات الزوار

أفلام وثائقية
صور نادرة
مصطلحات

إقامة جبرية

اجراء وقائي تتخذه أجهزة الأمن بحق شخص تعتبره خطراً على النظام العام، ويقضي هذا الاجراء بإقامة الشخص في مكان تحدده السلطات الحكومية مع خضوعه لمراقبة تحد من حريته في التنقل. وتتميز الإقامة الجبرية عن الاحتجاز الاداري في أنها اجراء تستطيع السلطات الإدارية بموجبه أن تلقي القبض على شخص تعتبره خطراً على الأمن العام، دون أي تدخل من قبل السلطات ا ...

شاهد جميع المصطلحات